بمجرد الاعلان عن "وأد الفتنة" في الاردن وما رافقها من اعتقالات واجراءات احترازية, تنطح المحللون التقليديون لتشريح ما حدث هناك بطريقة لم تجب على اهم الاسئلة التي كان يجب ان تطرح وتتعرض للكثير من التمحيص والتشريح.
فالمحللون التقليديون لم يعطونا جوابا شافيا عن سر توقيت "الفتنة" الان ولماذا تاخرت ان كانت قد تاخرت (حيث ان مطالب الامير حمزة بالاصلاح قديمة). او لماذا تم الاستعجال بها ان كانت حصلت في وقت قياسي. فالمتامرون المعلن عنهم لا يوجد ما يجمعهم تاريخيا ويبدو ان القوى التي اقنعتهم للتعاون كانت على عجلة من امرها لتحقيق اجندة ما او لمنع اجندات معينة من التحقق.
فالامير حمزة وحسب كل من تصدى للدفاع عنه (خصوصا معارضة الخارج) لم يقم ابدا علاقة مع باسم عوض الله. بل ذهب البعض منهم الى اتهام العوض الله بالفساد وان ربط اسمه بالامير حمزة في هذه القضية هدفه تشويه سمعة الامير والتقليل من قيمة مطالبه بالاصلاح ومحاربة الفساد. وفي الظروف الطبيعية, يعتبر هذا المنطق صائبا وحقيقيا.
كما ان المحللين التقليديين لم يجيبوا عن تساؤل مهم عن سر دخول السعودية والمحسوبين على ولي العهد محمد بن سلمان على خط محاولة الاطاحة بالملك عبدالله الثاني, بالرغم من ان النظامين الملكيين كانا على وفاق كبير في معظم قضايا المنطقة تاريخيا
المحللون التقليديون ما زالوا يقسمون العالم الى محورين رئيسيين تقليديين هما: محور امريكا والناتو وحلفائهما من جهة ومحور روسيا – الصين – ايران من جهة اخرى. وفي هذا المقال ساوضح بما لا يدع مجالا للشك ان هذا التقسيم مضلل وخاطئ وبالي عفى عليه الزمن.
فمفاوضات فيينا والغزل الواضح بين النظام الايراني وادارة بايدن تثبت ان مكان ايران ليس في المحور الروسي – الصيني كما كان يراد لنا ان نتخيل.
بل ان الغزل الكبير بين النظام الصيني وادارة بايدن وتعليق الادارة لكثير من الاجراءات الاقتصادية التي فرضها ترامب على الصين من فرض رسوم جمركية على الصادرات الصينية والتعاون الكبير بين ادارة بايدن مع الصين لتمرير مشروع الكورونا, رغم المعارضة الروسية, يوحي ايضا ان المحور الروسي – الصيني ايضا هو محور على الورق وليس حقيقيا
كما ان المحللين التقليديين اهملوا (صدفة او عن قصد) تحليل وتشريح العلاقة القوية الوطيدة بين روسيا وادارة الرئيس ترامب. هذه العلاقة التي قلبت المعادلات والتوازنات وجاءت لاسباب لم يتعمق بتحليلها الكثيرون.
استطيع ان ادعي واثقا ان عام 2016 كان عاما حاسما على المسرح الدولي وان افرازاته شكلت النقلة النوعية في التوازنات الدولية, وصولا الى الفوضى العارمة التي يعيشها العالم الان. هذه الفوضى التي شملت نقل تزوير الانتخابات كعلامة تجارية خاصة للدول النامية, لتمارس بشكل علني ومفضوح في انتخابات زعيمة العالم الحر. هذا العام (2016) ايضا شهد محاولات الدولة العميقة لزعزعة استقرار زعيمة العالم الحر بمسميات "نشر الديمقراطية" و"الثورات الملونة" التي لم تكن تمارس الا في دول العالم الثالث
نتائج انتخابات عام 2016 في الولايات المتحدة اوضحت بشكل جلي ان الدولة العميقة التي تحكم العالم (سرا وبشكل مفضوح) عبر التحكم بالصحافة والاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي واللوبيات الضخمة ومؤسسات نشر الديمقراطية العابرة للقارات, كانت على وشك الانقسام بين معسكرين: الدولة العميقة المدمرة التي نهجت مبدأ تدمير النظام العالمي القائم على نظام "الدولة الوطنية القومية" عن طريق عسكرة العالم وخلق نزاعات عسكرية واسعة وفوضى في النظام العالمي لهدم نظام الدولة الوطنية المعمول به منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى . هذا المعسكر الذي يتصدره مجمع الصناعات العسكرية وشركات النفط العملاقة وادواتهم من بيل جيتس وجورج سورس والعائلات السياسية الحاكمة كلينتون اوباما بوش. والمعسكر الثاني المتمرد على الفوضى الشاملة وتدمير نظام الدولة الوطنية المتمثل بشركات البناء والاعمار وكثير من الشركات العملاقة التي ترى ان انهيار النظام الراسمالي الحالي والذي كانت بوادره الانهيارات الكبرى المتتالية في اسواق الاسهم والاقتصاديات الكبرى اعوام 2007 , 2015 , 2020 كان سببه الرئيس هو الافراط في عسكرة العالم ونشر الفوضى "الخلاقة" في مناطق مهمة واسعة وان الحل الوحيد لاخراج النظام الاقتصادي العالمي من ازماته المتكررة الخانقة هو انهاء الفوضى والعنف واعادة الاستقرار للعالم للبدء باعادة البناء وما سينتج عنه من انتعاش اقتصادي عالمي كبير. هذا المعسكر الذي يقوده الثنائي ترامب – بوتين بالتعاون مع الحكومة البرازيلية والهندية
معسكر بوتين – ترامب ادرك منذ الايام الاولى لتسلم ترامب السلطة وشروعه باعادة الاستقرار للمناطق الملتهبة عبر تدمير المنظمات الارهابية والبدء باعادة الاعتبار للدول الوطنية المتحولة الى دول فاشلة او شبه فاشلة كليبيا والعراق وسوريا واليمن والسودان, ادرك هذا المحور ان طريقه صعبة ولا بد من قلب كل التوازنات الدولية القائمة التي ارستها الدولة العميقة المتوحشة خلال عقود او حتى قرون
فمن كان يعتقد يوما ان تقوم السعودية باقامة علاقات استراتيجية مع روسيا وشراء منظومات سلاح متطورة منها؟ ومن كان يتخيل يوما ان تصبح علاقة دولة من دول الناتو بروسيا اقوى من علاقة هذه الدولة باعضاء حلفها؟ بل ومن كان يعتقد ان تقوم الولايات المتحدة ايام ترامب بالانسحاب من مناطق استراتيجية كسوريا وليبيا ومصر لصالح روسيا, التي كان لها مطلق اليد لاعادة تشكيل التحالفات في هذه الدول واعادة الاعتبار لقواها الوطنية؟
عود على بدء للحديث عما حدث في الاردن وللاجابة عن التساؤل عن توقيت الاحداث هناك, يجب ان نذكر ان الزلزال الذي ضرب الدولة العميقة بفوز ترامب بالرئاسة عام 2016 وتقاربه مع روسيا وقلب التحالفات الاستراتيجية حول العالم, اجبر الدولة العميقة لتسريع اعلان الحرب العالمية الثالثة والتي لم يكن من الممكن اعلانها عسكريا لوجود سلاح نووي رادع بايدي كل المتخاصمين. الحرب العالمية الثالثة جاءت هذه المرة على شكل زلزال كذبة الكورونا الذي هدم الاقتصاد العالمي وكان المفترض به انهاء التمرد الذي قاده معسكر ترامب – بوتين على الدولة العميقة المسيطرة عن طريق اخراج ترامب من السلطة وانهاء تاثيره في السياسة بالكامل.
وفي الاردن, كان الملك عبدالله الثاني قد اختار الانضمام لمعسكر ادارة بايدن – الصين حتى قبل تزوير الانتخابات الامريكية واخراج ترامب من البيت الابيض. فالنظام الاردني كان اول نظام سياسي في العالم يفرض اجراءات احترازية صارمة جدا بشان الكورونا منها حظر تجول شامل واغلاق المطارات والحدود واجبار الناس على ارتداء الكمامات وغيرها من الاجراءات التي مهدت لتعميمها على دول العالم حين اعتبرت منظمة الصحة العالمية (وهي احدى ادوات السيطرة للدولة العميقة) ان الاجراءات الاردنية مثالية ويجب ان يحتذى تطبيقها في كل دول العالم. كما انحاز النظام الاردني الى اجندات ادارة بايدن بخلق توترات مع المملكة السعودية وحلفائها (وهم جميعا حلفاء لترامب) فيما يخص معاهدات السلام الابراهيمي وصولا الى خلق توترات مباشرة مع الكيان ومنع الطائرات من عبور اجواء المملكة متجهة بين "اسرائيل" ودول الخليج المطبعة.
انحياز النظام الاردني بالكامل للدولة العميقة التي يمثلها حلف ادارة بايدن – الصين – ايران هو من اسرع في محاولات زعزعة النظام الاردني ابتداءا من الحراك الشعبي المطالب بفك الحظر وانهاء الاغلاق ومحاسبة الفاسدين وانتهاءا بتجميع القوى المحسوبة على محور ترامب – بوتين للانقضاض على النظام وازاحة راسه واستبداله بالامير حمزة.
ما حدث في الاردن لا يعدو كونه حربا خفية بين المحاور الدولية لاخراج الاردن من محور وادخاله في محور اخر. فالسعودية والتي تعمل الان على زعزعة السيطرة الايرانية في لبنان والعراق, يهمها اخراج الاردن من محور بايدن – الصين – ايران وادخالها في محور ترامب – بوتين.
وفي الايام الاخيرة وجهت السعودية ضربات قوية لمحور بايدن – ايران عن طريق وقف المساعدات للبنان والاردن بشكل تام, منع دخول الخضراوات اللبنانية (وهي المصدر الوحيد الان للدخل الخارجي وبالعملة الصعبة للبنان) الى السعودية ودول محورها, واخرها منع دخول الشاحنات الاردنية الى السعودية او عبرها متحججة بتخفيض التلوث البيئي.
ولا يفوتني التنويه بان الزج بالقضية الفلسطينية في الازمة في الاردن يهدف للتعمية عن حقيقة ما حدث هناك. فادعاء معارضة الخارج ان احد اسباب قيام جماعة الامير حمزة بحركتهم الاخيرة هو وقف نفوذ الملكة رانيا واهلها في الاردن وسياسته, غامزين الى مسالة حساسة تخص كون الملكة من اصول فلسطينية. ولم يقصر النظام بمحاولة تجيير القضية الفلسطينية لصالحه عن طريق الادعاء ان اهم اسباب الحركة الانقلابية هو دفاع النظام عن الحقوق الفلسطينية والادعاء ان الامير محمد بن سلمان يحاول مزاحمة الملك عبدالله الثاني على الاشراف على المقدسات في الاراضي الفلسطينية.
وردا على معارضة الخارج اقول ان الفساد الذي اتخذ ذريعة لقلب نظام الحكم والاتيان بالامير حمزة للسلطة, هذا الفساد مستشري في كل مفاصل الدولة ومنذ قيام المملكة قبل مئة عام. والانهيار الاقتصادي في المملكة واعتمادها بالكامل على المساعدات الخارجية وخصوصا الخليجية حدث في الاردن منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي خلال حكومة زيد الرفاعي وسببه الاول هو الفساد. ولذلك فان محاولة القاء المسؤولية كاملة على الملكة رانيا (الفلسطينية الاصل) هو تضليل ومحاولة لاستثارة النعرات العنصرية في محاولة الاطاحة بالملك عبدالله الثاني
كما ان ادعاءات الملك عبدالله الثاني بان "الفتنة" تستهدفه لانه ضد التطبيع, ايضا غير صحيح حيث ان الاردن من اوائل الدول العربية التي وقعت معاهدات سلام مع الكيان وتطبع مع هذا الكيان على مختلف المستويات ومنذ توقيع معاهدة وادي عربة 1994.
اعلان الملك ان الفتنة تم وأدها هو اعلان مضلل ايضا وغير واقعي. ففي الحروب العالمية تستمر محاولات الاحتلال واخراج الدول من سيطرة محور الى سيطرة محور اخر الى ان تضع الحرب اوزارها ويعلن محور انه المنتصر في الحرب ويستسلم المحور الاخر لشروط المنتصر. وهذا لم يحصل حتى الان
فالحرب العالمية الثالثة ما تزال تدور رحاها وكل المشاركين فيها ما زالوا صامدين يقاتلون حتى الرمق الاخير. ومحاولة الدولة العميقة التي بدأت الحرب لتدمير ترامب وانهاء ادارته, لم تحقق هذا الهدف اطلاقا. فترامب ما زال لاعبا اساسيا في السياسة الامريكية والدولية, حيث انه ورغم خروجه من البيت الابيض الا انه قد عزز سيطرته على حزب الجمهوريين بالمطلق. وكل سياسي جمهوري يريد ان يستمر في منصبه, يسعى لاعلان الولاء لترامب ومؤسسته. هذه المؤسسة التي تسعى لاعادة السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات النصفية اواخر العام القادم والتي ستترك ادارة بايدن مشلولة بالكامل انتظارا لرحيلها عام 2024
كما ان الرئيس بوتين ما زال يحقق سيطرة مطلقة داخل روسيا وفي جوارها واحبط في الاسابيع الاولى لادارة بايدن, محاولات انقلاب فاشلة في روسيا وبيلاروسيا والمناطق التي يسيطر عليها في اوكرانيا. كما انه ما زال يحقق مزيد من السيطرة عن طريق ضم دول جديدة لحلفه مستخدما لقاح سبوتنيك مدخلا لهذا التوسع في الحلف
الاردن مقبل على تطورات خطيرة واستقرار النظام هناك ابعد ما يكون عن الحقيقة. فما دام هناك فقر مدقع وبطالة وتخبط في الاداء الحكومي وغياب اليات كبح الفساد, فان التدخل المستقبلي في الاردن ممكن وبسهولة.
والايام القادمة حبلى بالتطورات